أحداث حماة عام 1964



كانت الأسر الإقطاعية في حماه والأسر التابعة لها في المدينة والريف تشكل تكتلا سياسيا واجتماعيا وانتخابيا في مواجهة الاشتراكيين العرب منذ بدء حركة الشباب، وتجلى ذلك بوضوح في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1943.
لقد انضم إلى هذا التكتل بعد الانفصال الإخوان المسلمون وعدد ضئيل من عملاء المخابرات المصرية فخاض هذا التكتل، الانتخابات التي جرت في عهد الانفصال بقيادة ما أسموه لجنة أحياء المدينة ولكن النجاح لم يكن نصيبهم، وقد قام هذا الحلف في أوائل عام 1964 بثورة مسلحة في مدينة حماه لإسقاط حزب البعث بتشجيع من مصر والعراق، كما جرت قبل هذه الثورة التي بدأت في السابع من نيسان محاولات من قبل الناصريين و الإخوان المسلمين للقيام بإضراب ومظاهرات في بعض المدن السورية تمهيدا للثورة ولكنها باءت بالفشل.
في مطلع شهر نيسان -على ما اذكر- زارني الأستاذ علي عدي وأخبرني بأن لجنة أحياء المدينة قد عرضت على الاشتراكيين العرب التحالف معهم للنضال في سبيل إسقاط حكم حزب البعث فقلت له:
إنني لا أوافق على التعاون مع هذه اللجنة إلا بشرط أن يقتصر اتفاقنا على المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية وعودة الحياة البرلمانية الديمقراطية للبلاد، فإذا تمت الموافقة على هذا الشرط، فيمكن أن نبدأ هذا التعان بتقديم مذكرة ترفع لحكومة البعث باسم مدينة حماة موقعة من جميع هيئاتها ورجالاتها على مختلف اتجاهاتهم السياسية.
وفعلا فقد تقدمت المدينة لمحافظ حماة (عبد الحليم خدام) بهذه المذكرة ليرفعها للحكومة ولما لم تجد أذناً صاغية، عادت لجنة الأحياء وعرضت على الاشتراكيين العرب القيام بثورة مسلحة لإسقاط حكم حزب البعث الذي أصبح محاصرا من قبل مصر والعراق، فاقترحت على الاشتراكيين العرب أن ينصحوا لجنة أحياء المدينة وان يبصروها بعواقب استعمال العنف مما سيعرض المدينة للانتقام الوحشي من الجيش، ولكن لجنة أحياء المدينة ظلت على تصميمها باللجوء إلى الثورة المسلحة.
وقد أشارت صحيفة الحياة إلى موقف الاشتراكيين العرب بما يلي:
"لقد قيل بأن الحوراني كان يتوقع مثل هذا الانفجار وانه أوعز إلى أنصاره بالابتعاد عنه" كما قيل:
"إن جماعة الحوراني قد فوتحوا بالأمر ولكنهم رفضوا الاشتراك بالحركة وقالو انهم سيقفون على الحياد" (18/4/1964)
كنت ما أزال في دمشق ملاحقا متواريا عندما بدأت أحداث حماه الأولى، أو القصف الأول لهذه المدينة، وأقول الأول لتمييزه عما حدث فيما بعد في عام 1982.
بدأت هذه الأحداث التي كانت أخبارها تصل ألي - وانا متوار - بصورة متتابعة في السابع من نيسان عام 1964وكان السبب المباشر حادث طلابي يقع مثله غالبا في أي مدرسة، ولكن السلطات البعثية عالجته بصورة استفزازية لا مبرر لها.
كان ذلك عندما كتب احد طلاب مدرسة عثمان الحوراني على اللوحة لا حكم إلا لحزب البعث، فشتم طالب آخر هذا الحزب وكتب لا حكم إلا لله، فاعتقلت السلطات الطالب وجرت مداخلات كثيرة لإطلاق سراحه، ولكنها لم تثمر بل اصدر شبلي العيسمي وزير التربية والتعليم قرارا بنقل عدد من مدرسي الدين في المدينة، فأضرب طلاب المدارس الرسمية والخاصة احتجاجا على ذلك، وبعد يومين من الحادث خرج المصلون من صلاة الجمعة بمظاهرة احتجاج قمعها الجيش بقسوة، سقط على اثرها قتيل وبعض الجرحى، فأضربت المدينة إضراباً عاما اشتركت فيه جميع فئاتها وعندما حاولت السلطات فتح بعض المتاجر بالقوة اصطدمت بمقاومة مسلحة مما أدى إلى دخول الجيش المدينة ولا سيما أحياءها القديمة، ثم عزلت حماة عن الخارج تماما، ولكن الأخبار بدأت تتوارد عن البيوت التي تهدم، وعن الجوامع التي تقصف، فحاولت إرسال شاب لاستطلاع ما يحدث في المدينة، فعاد إلي وهو يبكي ويقول لم استطع دخولها ولكن أصوات القصف تملأ أجواءها.
لقد كانت المساجد في سورية خلال الاستعمار الفرنسي المكان الذي يلجأ اليه المتظاهرون ... اذكر ذلك جيدا خلال مظاهرات دمشق عام 1936 التي اشتركت فيها عندما كنت طالبا في كلية الحقوق، كان المتظاهرون يلجأون إلى الجامع الأموي عندما تشتد المطاردة فيقف الجنود الفرنسيون والسنغال أمام أبوابه لا يطأون حتى أعتابه.
لم يحدث ذلك في حماة عندما التجأ المقاومون إلى المساجد، فعندما اعتصم الشيخ مروان حديد مع بعض أنصاره في جامع السلطان حاصرت الدبابات الجامع وقصفته بالمدافع، وكان مروان حديد قد شكل في حماة جماعة ذات اتجاه ديني مستقلة عن مشايخها وعن جماعة الإخوان المسلمين الذين كان يطلق عليهم اسم الدوليين إشارة إلى اتصالاتهم المتشعبة، وكان يبشر بالجهاد للإطاحة بحكم البعث الطائفي ولهذا تولى التوجيه والتبشير والتنظيم انطلاقا من جامع البحصة أولا ثم من جامع السلطان الذي هو اهم جوامع المدينة وفي وسطها، فاحتل بذلك مكان الشيخ محمد الحامد، وجعل من هذا المسجد منطلقا للدعوة إلى الثورة على حزب البعث.
لقد توقف إطلاق النار في حماة بتاريخ 16 نيسان نتيجة لتوسط بعض رجالاتها أمثال الشيخ محمد الحامد وإبراهيم الشيشكلي، ونتيجة لمساعي التهدئة التي كان يبذلها اللواء أمين الحافظ، وتشير صحيفة الحياة إلى مساعي التهدئة هذه بما يلي:
"لقد سعى اللواء أمين الحافظ على فض المشكلة يوم 16 الجاري ودار حديث بين لجنة المدينة والمحافظ على إنهاء المشكل بما يشبه طريقة لا غالب ولا مغلوب فيما يتعلق خصوصا بالقتلى من الجانبين أي من الأهلين والجيش والشرطة والحرس مع اعتقال عدد من المطلوبين للتهدئة" (21/4/1964).
وكانت قد صدرت قائمة بأسماء بعض الأشخاص الذين تقرر اعتقالهم وأحالتهم على المجلس العرفي بتهمة التآمر على سلامة الدولة ومناهضة المبادئ الاشتراكية والتعاون مع الاستعمار بالإضافة إلى مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وهم : عثمان الأمين، عبد الله السقاف، اكرم العاشق، عبد الله البرازي، احمد الأمين، فؤاد الأسود (ضابط مسرح من ضباط الشيشكلي) أديب نصور، سعيد حوا، عبد المجيد طهماز، احمد العظم، رياض العظم، وجيه البرازي، عبد الكريم مسطو الحلبي، مصطفى إبراهيم عز الدين، فريد نصور، طلحة طيفور، صادق نورس الكيلاني، غازي العظم، بعد أن اصدر الدكتور نور الدين الأتاسي وزير الداخلية ونائب الحكم العرفي الأوامر العرفية التالية :
امر عرفي رقم 70: إن نائب الحكم العرفي يأمر بما يلي:
مادة أولى: تغلق مدرسة عثمان الحوراني الثانوية الرسمية في مدينة حماة نهائيا وينقل مدرسوها وموظفوها ويوزعون من قبل وزارة التربية والتعليم.
مادة ثانية: ينشر هذا الأمر العرفي ويبلغ حيث يلزم تنفيذ أحكامه.
امر عرفي رقم 71: ويتناول وجوب فتح الأفران ومحلات بيع المواد الغذائية مع تطبيق اقصى العقوبات بالمخالفين.
امر عرفي رقم 72: إن نائب الحاكم العرفي بناء على المرسوم 1042 تاريخ 24/9/63 وبناء على أحكام المرسوم التشريعي رقم 110 تاريخ 18/7/63 وتعديلاته يأمر بما يلي:
مادة أولى: يحدث مجلس عرفي عسكري في المنطقة الوسطى تكون مهمته محاكمة المشتركين والمتدخلين والمحرضين على الفتنة التي وقعت في حماة بتاريخ 15/4/64.
مادة ثانية: يشكل المجلس العرفي المنصوص عليه في المادة الأولى من هذا الأمر برئاسة الرائد مصطفى طلاس وعضويه الضباط الآتية أسماؤهم الرائد عزت جديد، الراشد جمال داوود، النقيب جمال طيارة، النقيب عطية سويداني، ويسمى الضباط الآتية أسماؤهم أعضاء متممين:
الرائد محمد جحجاح، النقيب مصطفى عبده المصطفى، النقيب سجيع سيجري.
مادة ثالثة: ينشر هذا الأمر العرفي ويعتبر نافذا من تاريخ صدوره.
دمشق 15/4/1964.
الدكتور نور الدين الأتاسي نائب الحاكم العرفي

وفي التاريخ نفسه ادلى شبلي العيسمي وزير التربية ووزير الإعلام وكالة بتصريح حاول فيه أن يغطي على ما جرى في المدينة مدعيا أن الأحداث أسفرت عن قتيلين فقط! وفيما يلي بعض ما ورد في هذا التصريح:
"لقد بدأت حوادث حماه قبل ثلاثة أيام حين اعتقل احد الطلاب ونقل بعض الأساتذة والمعلمين فحاولت احدى المدارس القيام بمظاهرة في حي الحاضر، انطلقت إثناءها بعض الرصاصات مما أدى إلى مقتل احد المواطنين وقد ثبت أن الرصاصة قد أتت من مكان عالي يرجح انه احد السطوح مما يدل على أنها لم تصدر من رجال الأمن، وقد استغلت هذا الحادث العناصر الرجعية الحاقدة والإقطاعية التي لم تكتم حقدها منذ تطبيق الإصلاح الزراعي وتطبيق الخطوات الاشتراكية الأخيرة.
 فأضرب عندئذ قسم كبير من المحلات التجارية ... لهذا السبب اتخذت السلطة الإجراءات الحازمة فوضعت حدا للعبث والتخريب، وقد حدث أن انطلقت بعض الطلقات من بعض البيوت مما اعتبرته السلطة تحديا للثورة فوقفت منه موقفا حازما واعتقل المحرضون وسينظر المجلس العرفي بقضيتهم في الساعات القادمة".
وذكر العيسمي أن شخصا آخر فقد قد قتل في أحداث هذا اليوم (أي 15/4) ثم قال محاولا التخفيف من مسؤوليته كوزير للتربية في الضغط على الطلاب والتنكيل بالمعلمين ومتجاهلا ممارسات النظام الإرهابية التي بدأت مع انقلاب الثامن من آذار والتي كانت السبب الرئيسي لنقمة الشعب السوري في حماة وغيرها من المدن السورية:
"إن من الأسباب المباشرة لهذه المحاولة الفاشلة القرار الذي أصدره وزير الإصلاح الزراعي يوم امس بالاستيلاء على أراضي 262 ملاكا زائدة عن الحدا الأعلى للملكية الزراعية بموجب قانون الإصلاح الزراعي"

كان غريبا أن تتابع الحكومة استفزازها خلال هذه الأزمة بإعلانها الاستيلاء على الأراضي الزائدة وإعلانها تأميم شركات جديدة في حلب (المرسوم رقم 45 القاضي بتأميم شركة الططري وعداس وشركة الشهباء وشركة الأخضري) ثم تلا ذلك مرسومان آخران بتاريخ 20/4 يقضي الأول منهما بتأميم شركة المغازل والمناسج في دمشق والشركة العربية المتحدة (الدبس) ويقضي الثاني بتأميم الشركة العربية لصناعة الأخشاب المساهمة المغفلة في مدينة اللاذقية.
لقد كان هذا الأسلوب الاستفزازي هو الأسلوب الذي اعتادت السلطات البعثية استعماله لتفجير النقمة الشعبية واستدراجها ثم إجهاضها قبل نضجها وتمام استعدادها، مع استعداد السلطات الكامل لمواجهة الانفجار.
لم تدم الهدنة التي أعلنت في مدينة حماة سوى ساعات قليلة، فقد عم الاستياء المدينة، وجرت اعتداءات على أفراد الحرس القومي عندما رفع منع التجول ونزل الناس إلى الأسواق والشوارع ورأوا الدمار الذي حل بالمدينة وبصورة خاصة بجامع السلطان الذي سقطت مئذنته بعدما دكتها مدافع الدبابات وعرفوا أن اكثر من أربعين شهيدا قد قضوا تحت انقاض الجامع، وكانت الأبواب الحديدية للمخازن أمام الجامع ملوية من قوة الانفجارات بينما غطت الأنقاض الطرقات المؤدية إلى الجامع، ومن جديد صدر الأمر يوم 17/4 بإعادة منع التجول، وأعطيت الدبابات وناقلات الجنود المصفحة الأمر بالتحرك لبدء الحملة على المدينة، ولكن قوات الجيش لم تكن مسيطرة إلا على جزء من الشارع الممتد من السراي إلى القلعة وبعض فروعه فليس ممكنا الوصول اليها بالدبابات أو المصفحات لأن معظمها قديم وضيق.
وفي دمشق حيث كانت السلطة تحتفل بعيد الجلاء القى أمين الحافظ كلمة كانت حافلة بالتهديد إذ ورد فيها:

"نحن نقول للمتآمرين ومن خلفهم ما هي إلا أيام قليلة حتى نسحقهم ومن معهم ومن خلفهم وسيعلم المتآمرون أي منقلب ينقلبون" وعندما عاد إلى حماة واجتمع بلجنة المدينة تابع تهديداته قائلا:

"سنحكم بالموت على من يستحق الموت، ونعاقب بالسجن المشاغبين وسنسوقهم إلى تدمر مشيا على الأقدام حيث يبقون حتى يتحولوا إلى أناس طيبين ولسوف نمشط المدينة لمصادرة السلاح ولن نترك فيها غير سكاكين المطبخ" وقال إن "ما جمع من السلاح غير كاف، ولهذا لن تنسحب القوات من المدينة ولن يرفع حظر التجول عنها حتى يقدم ممثلوها كميات أخرى من السلاح نعتقد أنها موجودة ومخبأة" وأضاف:

انه استدعى وزراء الأشغال العامة والمواصلات والشؤون البلدية والقروية ومهندسين من الجيش لتنفيذ مشروع تخطيط المدينة وشق الطرق فيها وإقامة معالم حماة الجديدة فورا.
وقد عرف سامعوه انه يريد بذلك شق الطرق وتعريضها ليتمكن الجيش من دخول الأحياء القديمة التي عصيت ولم يتمكن الجيش من الدخول اليها.
ومقابل ذلك فقد أعلن المحافظ تخصيص مئتي ألف ليرة لإعادة بناء جامع السلطان كما أعلن انه سيخصص نصف مليون ليرة لتوزع على فقراء المدينة.
عندما بدأت أخبار قصف مدينة حماة تتوارد إلى المدن السورية الأخرى بدأت هذه المدن إضرابها واحتجاجها على السلطة البعثية، ففي حمص التي اضرب تجارها، ألقيت قنبلتان إحداهما بالقرب من قيادة الموقع والأخرى بالقرب من بيت المحامي منير العامودي أحد أعضاء حزب البعث.
أما دمشق فقد دخل إضرابها يومه الثالث احتجاجا على ما ارتكبه الجيش بحق مدينة حماة، وبادر المحامون فيها بعد اجتماع عقدوه في قصر العدل إلى إعلان الإضراب إلى أن تطلق الحريات العامة وتعود الحياة الدستورية، وقد لعب المحامون من الاشتراكيين العرب، وكنت على اتصال معهم، دورا في تقرير هذا الإضراب وفي وضع صيغة البيان الآتي:
إن المحامين الذين حملوا في مختلف العهود عبء الدفاع عن حقوق الشعب وحرياته الأساسية، يرون لزاما عليهم في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد أن يعلنوا:
إن هذا الشعب في مختلف العهود اثبت انه لا يمكن أن يحكم إلا بالأسلوب الديمقراطي الصحيح الحكم فيه فعلا من الشعب.
وان المجلس الوطني لقيادة الثورة كان أعلن في الثامن من أذار 1962 حين أكد في سلسلة من بياناته، ومنها بلاغه المنشور في الصفحة 34 من كتاب التوجيه المعنوي انه إنما جاء ليعيد حكم الشعب للشعب وبالشعب إيماناً منه ومن كل مواطن في هذا البلد أن كل حكم خارج عن هذا البلد مصيره الزوال.

ولقد مرت بالبلاد منذ ذلك الحين مآس كثيرة ودخلت في تجارب عديدة باعدت بين الشعب والحاكمين.
وإذا كنا لا نريد أن نسهب في تعداد صور تباعد وأسباب المآسي الكثيرة، فإن في الأحداث الأخيرة التي وقعت في بعض المدن السورية كحماه. وما أعقبها من إعلان للإضراب الشامل تعبيرا عن استياء الشعب لدليلا واضحا على فقدان الثقة بين الحكم والشعب، وانعدام التجاوب بينهما، خصوصا وان المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان كما أقرتها الشرعة الدولية قد انتهكت وهدرت بشكل مفضوح فاعتقل عدد من المحامين ورجال القانون إلى جانب مئات المواطنين، وعذبوا وأهينوا بصورة هدرت فيها كرامة الإنسان وعلى وجه أدى إلى عزل الحكم عن الشعب والى تعريض امن البلاد الداخلي والخارجي إلى الأخطار.
لذلك فإن المحامين يطالبون:

  •         بأطلاق الحريات العامة.
  •         الغاء حالة الطوارئ.
  •         إعادة الحياة الديمقراطية للبلاد فورا دون إبطاء وتشكيل حكومة انتقالية محايدة تشرف على انتخابات حرة نزيهة.
ولا يسع المحامون، وهم يقدمون هذا البيان إلا أن يعلنوا وقوفهم إلى جانب الشعب في إضرابه الشامل الذي أعلنه مؤخرا حتى تجاب مطالب الشعب.

كما أصدرت الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية وهم مجموعة من المثقفين من محاميين وأطباء ومهندسين وصيادلة، بيانا بتاريخ 21/4 جاء فيه:

"في هذا اليوم نتوجه إلى شعب سورية الذي اثبت على مر الإيام في مختلف الظروف والعهود انه لا ينام على ضيم ولا يستكين لظلم أو جور، نتوجه اليه وساحات الإعدام تعج بالضحايا نتوجه اليه باسم كافة الفئات الوطنية العاملة على مختلف اتجاهاتها ومذاهبها السياسية والتي وحدت جهودها في جبهة تعمل لإنقاذ الشعب من الطغمة المجنونة الحاقدة التي تريد التحكم بمصيره.
إننا نقول لهذه الطغمة الحاكمة التي حسبت أن الشعب الذي أمهلها طيلة سنة ونصف ساكت عن جرائمها المتتالية وتخريبها المستمر أن الشعب وان أمهل فهو لا يهمل وان ساعة الحساب قد دقت ثم ينتهي البيان إلى القول:
أن الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية الممثلة لكافة القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية والتي أخذت على عاتقها اليوم السير في طليعة الشعب في معركته ضد الطغمة الحاكمة تدعو كافة المواطنين للالتفاف حولها ومتابعة العصيان المدني حتى تحقق مطالب الشعب وهي:

  •         الغاء حالة الطوارئ.
  •         إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور.
  •         تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية تتولى إجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة حكم ديمقراطي سليم.
وقد كنت في هذه الفترة على اتصال وثيق ببعض أعضاء هذه الجبهة للعمل على الاستمرار بالإضراب والتظاهر والحض على أن تتوحد مطالب الجميع بمطلب واحد هو عودة الحياة الديمقراطية، وكان لنشاط الاشتراكيين العرب سواء في أوساط المحامين أو في أوساط التجار دور مؤثر في استمرار إضراب مدينة دمشق وفي توحيد مطالب الشعب السياسية.
وفي جو مشحون بالغضب الشعبي والإضرابات المستمرة في دمشق وحماه وحلب وحمص واللاذقية تجمع عدد من جماعة منصور الأطرش في جبل العرب (وكان وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية) مع مجموعة من أزلام السلطة في نقابات العمال حول قصر الضيافة حيث خطب فيهم محسن أبو ميزر البعثي ومسعود الشابي وهو تونسي لعب دورا مريبا في سورية، وخالد الحكيم الذي أشار إلى أن ما يجري في حماة هو أحداث مشبوهة هدفها التغطية على تحويل مجرى نهر الأردن محاولا أن ينفي هذه التهمة عن السلطة ليوجهها إلى شعب سورية والى مدينة حماة المجاهدة والبريئة مما يرتكبون، وأخيراً خطب منصور الأطرش، وفي إشارة للتأميمات التي صدرت خلال الأزمة قال:

 "إننا لم نتخذ هذه التدابير انتقاما كما يقال ويشاع بل اتخذناها بحزم وبأمل أن تعود اليكم خيرات البلاد ولم نتخذها تفريطا بأموال الغير بل لنؤكد مبادئ الثورة".
وفي هذا الجو المشحون بالغضب الشعبي عقد أيضا اللواء أمين الحافظ مؤتمرا صحافيا (24/4/64) القى فيه بيانا مكتوبا، ثم أجاب بعد ذلك على أسئلة الصحافيين.
"إن بعض المسؤولين لم يتورعوا عن خرق مقررات مؤتمر الدورة العربية وتصريحات علنية وتوجيهات مكشوفة وعقد اجتماعات مع المتآمرين وتزويدهم بالمال والسلاح ونقل هذه الأسلحة إلى داخل سورية، كما اثبت ذلك ما جرى من تحقيق في أعمال التخريب التي قام بها عملاء المخابرات في حلب وحماه، وبدأت هذه الاجتماعات تعطي نتائجها الأولى بحوادث مفتعلة في حمص وحلب في الشهرين الماضيين وكانت مهمتها إشاعة الفوضى والقلاقل، ثم ما لبثت أن ظهرت بشكل مركز في حماة بتوقيت مشبوه وذلك في عيد الجلاء ويوم أعلنت إسرائيل عن تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع تحويل نهر الأردن".
ثم استعرض اللواء أمين الحافظ أحداث حماه وتطورها من وجهة نظر السلطة لتبرير ما ارتكبه الجيش من جرائم في هذه المدينة المناضلة. ولما وجه اليه هذا السؤال:
هل لجماعة الحوراني ضلع في حوادث حماه؟ وكيف كان موقف الحوراني من هذه الأحداث؟ وهل صحيح انه اتصل بكم وعرض عليكم تدخله وجماعته إلى جانبكم لإخماد الفتنة؟
أجاب الحافظ:
لقد سئلت مرارا عن اتصالاتي بالأستاذ أكرم الحوراني، واجتماعاتي به، والحقيقة إنني لم اره ولم اجتمع منذ أيام الوحدة أو من منتصفها حتى الآن.
إن علاقتي بأكرم الحوراني سابقا كانت قليلة جدا، ولكن كلمة حق يجب أن تقال وقد ترضي هذه الكلمة البعض وتغضب البعض الآخر، إن اكرم الحوراني بقناعتي الخاصة، رجل وطني صادق له سياسته وأساليبه السياسية ويوجد من يفهم عليها ومن يحاسبه عليها، فهو كحزبي يحاسبه الحزب على أعماله الحزبية، ولكن الرجل والله مخلص، وانا بقناعتي لا سمح الله قد أباع واشرى، وأما اكرم فلا، وللحوراني فضل كبير في حماه بالذات، ولإخوانه نفس الشيء وجميعهم عناصر طيبة ومن خيرة الناس ولهم وجهات نظر كأي وجهة نظر، والإنسان يخطئ ويصيب وهم عناصر طيبة ومناضلة ونتمنى إن شاء الله أن يكون هؤلاء الشباب الطيبين يدا واحدة لخير البلد، وهذا الشيء الذي أقوله لا طمعا برضاء فلان ولا خوفا من فلان، الآن ولا من قبل، إن اكرم معروف عنه بأن كرامته عنده فوق كل شيء، يعني كرامة العربي الأصيل وهذا شيء صحيح ومعروف إن اكرم من العناصر التي لم تطأطئ رأسها لأي إنسان، هو وإخوانه، لا لعبد الناصر ولا لغيره، ولذلك ليس من المعقول أن يطلعوا ضد المدينة، وإنما يريدون أن يتم الوضع بغير هذا الشكل، والأمور تمشي بشكل أوضح واعتقد انهم لن يقفوا إلا بجانب الثورة باعتبارها ثورة اشتراكية عربية أصيلة وسليمة، واذا كان هنالك أخطاء فالجماعة يقفون ضدها بكل جرأة. 
ولما سئل عن عدد الجرحى والقتلى قال:
ليس لدى عدد دقيق فعلا، من الجيش يمكن أن يكون عددهم حوالي عشرين قتيلا وجريحا من المدنيين حوالي خمسين قتيلا، أما عن تهديم البيوت، فهنالك بيوت ضربت بالرصاص، لقد قلت أن كل بيت يطلق الرصاص سأدمره بعد أن يخرج الأطفال والنساء والشيوخ، وبهذا يمكن وقف كل إنسان عن حده، هناك بيوت اطلق عليها الرصاص من عيار "ليكن" وهو يخرب الحيط أما تهديم أحياء فلا يوجد.

وأجاب الحافظ على سؤال حول التفرقة في سورية قائلا:
"أن الأهداف الأساسية للاستعمار تفرقة أبناء الوطن الواحد إلى كتل وشيع وأثارة كتلة على كتلة ومذهب على مذهب ودين على دين، هذا هدف رئيسي من أهداف الاستعمار، ولكن لا يخلو الأمر أيضا من وجود عناصر بريئة طيبة قصيرة النظر لا تقدر الأمور حق قدرها يمكن أن تنساق بمثل هذا التيار المخرب، وان العصبية العنصرية والطائفية قد استغلها الأتراك والفرنسيون أوسخ استغلال... فنحن كلنا خمسة ملايين ونعمل لتحقيق جمع تسعين مليون عربي، فإذا بدأنا نفكر أن الطائفة الفلانية غير صالحة، والطائفة الفلانية اصلح، ومدينة حلب احسن من الشام وحماه احسن من حمص، والعايش في المدينة احسن من العايش في الريف والبدوي احسن من الحضري فهذا لا يجوز، واذا كان الأمر كذلك فلا يتطلب غير تنكة بنزين تحرق هؤلاء وتأتي بشعب جديد". 

ولما سأله الصحافيون عن رأيه بالملك حسين قال:
إنني قبل أن التقي بهذا الرجل واسمع حديثه يمكن كنت من الجماعة الذين يقولون عنه ما يقولون، أما أنا فأعتز بالرجل العربي سواء كان إقطاعيا أو كان رأسماليا وسواء كان حافيا أو كان رجعيا، كل عربي منا وفينا، ولا يمكن أن نتخلى عنه سواء أخطأ أم أصاب، نحن نصلح لبعضنا البعض ضمن الصلة الواحدة والبيت والواحد.
ثم امتدح الحافظ شجاعة الملك حسين وصدقه وموقفه من القضية الفلسطينية، كما امتدح الأمير فيصل قائلا إن الأمير فيصل فتح صدره للوفد الاقتصادي السوري بكل شهامة وقال لهذا الوفد يا مئة مرحبا، إننا نعتبر سورية بلدنا ونعتبر السوريين إخواننا ونحن عرب ولم يقصر الرجل بمساعدة الوفد.

ثم شرح الحافظ رأيه في الاشتراكية فقال:
يوجد بعض المتطرفين، يقولون يجب أن نؤمم كل شيء، هذا غير صحيح، نحن نعالج الواقع كواقع، وننصف الناس ونعطي كل إنسان حقه، لقد قلت لوفد التجار اليوم إننا نريد أن نتعاون مع بعضنا فربما نصل لدراسات أفيد مما نعتقد فالاشتراكية ليست كتابا منزلا أو آية منزلة من السماء.
لقد نزلت أفكار وآراء الحافظ التي أعلنها بصراحة وعفوية في مؤتمره الصحفي نزول الصاعقة على رؤوس البعثيين الحاكمين من عسكريين ومدنيين لأنها فضحت وكذبت جميع ما تعبوا بنشره من أفكار زائفة منحرفة وكان اشد ما اثأر مخاوف أجنحة الحكم المديح الذي خصني به أمين الحافظ في هذا المؤتمر، فقد ساورهم الارتياب جميعا من أن يكون ذلك نتيجة تفاهم واتفاق بيني وبينه، ولذلك دعي المجلس الوطني لقيادة الثورة لعقد اجتماع بتاريخ 27/4/64 دام اربع ساعات صدر على اثره بيان جاء فيه:
"إن العديد من المراسيم التنظيمية والتشريعية ستصدر بتسمية أعضاء المجلس الوطني (الجديد) الذي سيتولى السلطات التشريعية ومراقبة السلطة التنفيذية وان المجلس الوطني سينتخب في اجتماعه رئيسا ونائبا للرئيس وثلاثة أعضاء لمجلس الرئاسة الذي سيتولى السلطة التنفيذية، وسيتم اثر ذلك تشكيل حكومة جديدة تكون مسؤولة أمام مجلس الرئاسة".
وقد فهم الناس من ذلك أن هذه المراسيم تستهدف سلب اللواء أمين الحافظ صلاحياته وإقصاءه عن رئاسة الحكومة.
استمر الإضراب في دمشق وحمص وحلب واللاذقية، ولم يصدق الناس ما جاء في مؤتمر الحافظ واعتبروه من قبيل التخدير، وعندما دخل الإضراب يومه الثالث اعتبارا من 26/4 بدأت دوريات الحرس القومي تطوف الشوارع وتحطم أبواب المحلات التجارية وتتركها مفتوحة دون حراسة، وقد وصفت وكالة الصحافة المشتركة الوضع في دمشق كما يلي:
"بدأت جماعات الحرس القومي الذي يحمل كل منهم مخلا ومنشارا بفتح أبواب المخازن في قلب دمشق اليوم، وقد تحدى معظم أسواق دمشق الحكومة باستمرار بالإضراب، كما استمر في المدن السورية الأخرى، وقد ظهرت دلائل ازدياد النقمة الشعبية بانضمام المحامين إلى الإضراب وقيام الزعماء الدينيين بشجب إراقة الدماء في حماه حيث قتل حوالي ثمانون شخصا، وتوقيع الأطباء عريضة احتجاج على أحداث حماه، ودعوة نقابة المهندسين حكومة البعث إلى إجراء انتخابات وعودة الحياة الديمقراطية البرلمانية".
لقد طفق اللواء أمين الحافظ بعد اجتماع المجلس الوطني يهدد المضربين وترك اللواء محمد عمران - كما قرر المجلس الوطني - أن يبذل مساعيه مع التجار لأنهاء الإضراب فاستقبل وفدا منهم برئاسة هاني الجلاد وبحضور نور الدين الأتاسي وزير الداخلية والدكتور يوسف زعين وزير الإصلاح الزراعي ودار البحث عن الأوضاع الاقتصادية وعن المطالب التي كان اللواء الحافظ قد طلب تحديدها، فأصر وفد التجار على مطالبه السابقة وهي:

  •         إطلاق الحريات العامة.
  •         إعادة الحياة الدستورية والتمهيد لإجراء انتخابات عامة.
  •         التعاون مع كل الفئات دون تمييز طبقي أو سواه.
  •         الغاء تدابير التأميم التي لا تتفق مع مصلحة سورية الاقتصادية وتخفيف القيود عن النقد.
  •         الغاء حالة الطوارئ المفروضة منذ انقلاب آذار الماضي والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء قوائم العزل السياسي.
وبعد خروج الوفد من هذا الاجتماع أذاعت وزارة الإعلام بيانا كاذبا عن هذا الاجتماع، جاء فيه:
"زار وفد من تجار دمشق اللواء محمد عمران في دار الحكومة، واعرب أعضاء الوفد - بعد أن تفهموا أبعاد المؤامرة ضد سورية في الداخل والخارج - عن استعدادهم للتعاون بما يؤمن المصلحة العامة ووعدوا بفتح متاجرهم بعد أن طمأنهم اللواء عمران إلى أن المحبة والتآخي وحفظ حقوقهم وكرامتهم هي رائدة الثورة، وانتهى الاجتماع بأن شكرهم اللواء عمران على وعيهم".

وكانت الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية قد أصدرت بيانا بعد أن الحرس القومي حطم أبواب المخازن والدكاكين، وأصرت فيه على مطالبها السابقة وورد فيه:
"أراد حزب البعث أن يجد في مطالب الشعب السوري العادلة والمشروعة والتي تقدم بها متضامنا مع أهل مدينة حماه المجاهدة سببا لضرب الآمنين وخنق الروح النضالية لدى المواطنين والهاء الجيش السوري بخوض غمار حرب أهلية ليبرر لنفسه تخاذله في محاربة العدو الإسرائيلي الذي اعلن رسميا البدء بتنفيذ مشروعاته العدوانية على مياه الأردن.
إن حزب البعث قد خلق الفتنة الطائفية في البلاد، واستغل جيشه العقائدي بتهديم الجوامع على المصلين وسحق المواطنين الأشراف الذين كانوا دائما حربا على المستعمر. لقد ورد في مؤتمر أمين الحافظ أن الشعب العربي في سورية بكافة فئاته شعب طيب مخلص "ممتاز وكدع"، وهذا الكلام الجميل تعودنا سماعه من أمين الحافظ كلما تأزمت الأمور أمامه، وكأن ذلك حبة مسكن يعطيها لهذا الشعب الطيب، كما تعودنا منه التراجع عن تصريحاته بحجة القيادة الجماعية والاختلاف بالرأي ضمن مجلس الثورة، حتى أصبح الجميع على يقين أن هنالك مسؤولا لا يحكم وحاكما غير مسؤول.
وفي الوقت الذي كان أمين الحافظ يعلن أن الاشتراكية، عبارة عن نظام مدروس ومستمد من الإحصاء ومن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي، وأنها أرقام وإنتاج وتصريف إنتاج، في الوقت ذاته كانت حكومة البعث تصدر قرارات التأميم الارتجالية والمصادرات التعسفية لأموال الناس".
هذه هي عروبة حزب البعث واشتراكيته، وأما حريته فهي حرية هدم المساجد على رؤوس المصلين ونصب أعواد المشانق وتقتيل الأبرياء المناضلين.
إن الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية المؤلفة من كافة فئات الشعب السوري المناضل والتي أخذت على عاتقها السير في طليعة المعركة ضد مغتصبي الحكم اللاشرعيين تبارك انتفاضة الشعب السوري للدفاع عن مقدساته وهي تدعو لمواصلة الإضراب حتى تتحقق إرادته المشروعة.

  •         بإلغاء حالة الطوارئ.
  •         إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور.
  •         إبعاد الجيش عن المسرح السياسي وانصرافه إلى مهمته الرئيسة وهي حماية الحدود.
  •         تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية حيادية تتولى إجراء انتخابات عامة ونزيهة لإقامة حكم ديمقراطي سليم.
لقد رأيت من الضروري في تلك الفترة، بعد أن أصبحت محط الرجاء في إخراج سورية من محنتها، أن أصدر بيانا لشد عزائم المضربين، وقد أصدرته باسمي تفاديا لما يمكن أن يؤدي اليه من اعتقالات في صفوف الاشتراكيين العرب، أكدت فيه على مطالب الشعب بعودة الجيش إلى ثكناته وإجراء انتخابات حرة، وتأليف حكومة ائتلافية، كما أكدت فيه على وجوب الإسراع بتنفيذ مشروع سد الفرات واستثمار البترول وطنيا لحل أزمة اليد العاملة في سورية وقد أشارت جريدة الحياة اليه بتاريخ 1/5/64.
بعد أن تمسك الشعب السوري بمطالبه، وتمسك التجار بإضرابهم، نزل الجيش إلى الشوارع، وكان اللواء أمين الحافظ قد أصدر بتاريخ 30/4/64 بصفته الحاكم العرفي هذا الإنذار:
مادة أولى: تصادر محتويات كل محل عام يقوم بتأدية خدمات مأجورة للجمهور أو بتعاطي أعمال البيع أو الشراء لكافة أصناف التجارة وتؤول ملكيته للدولة مع كافة التزامات المالك تجاه الغير وذلك إذا وجد المحل مغلقا بلا مبرر قانوني، كما يحال مالكه إلى المجلس العرفي العسكري بتهمة التخريب والإخلال بالأمن وزعزعة الثقة العامة.
مادة ثانية: يجري جرد محتويات المحلات المصادرة حسب القواعد والأحكام القانونية المعمول بها وبواسطة لجان خاصة جرى تأليفها لهذه الغاية.
مادة ثالثة: يستمر المستخدمون والعمال العاملون في المحلات المصادرة فيتقاضون تعويضاتهم المكفولة وأجورهم أو رواتبهم من خزينة الدولة مع ضمان المكافآت التي ستقرر لهم بوصفهم عمالا في مؤسسات تعاونية.
مادة رابعة: يحال للمجلس العرفي العسكري كل شخص يقوم بتهديد الغير أو يدفعه لأغلاق محله بأي وسيلة من الوسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل شخص يحرض على الأخلال بالأمن أو الشغب، مع مصادرة أملاكه وأمواله المنقولة وغير المنقولة.
مادة خامسة: ينشر هذا الأمر العرفي ويعتبر نافذا من تاريخ صدوره.

وقد انتهى إضراب دمشق بعد ساعات من صدور هذا الأمر العرفي، وغني عن البيان أن الفرنسيين لم يرتكبوا نظير ما ارتكبه حزب البعث من تدابير بحق المضربين حتى في أيام ثورة 1925، أو في إضرابات ومظاهرات سورية عام 1936، وقد قدم أصحاب المحلات المنهوبة من التجار عريضة إلى اللواء حافظ واللواء عمران هذا نصها:
"قامت امس وأول امس عصابة مسلحة بكسر أبواب محلاتنا التجارية وانتهاك حرمتها واحتلالها ونهب موجوداتها بشكل وحشي لم يسمع بمثله قبل اليوم، وقد أشاعت هذه العصابة أنها تقوم بعملها تنفيذا لأمر الحكومة، واننا نعتقد بأن أي حكومة في العالم لا يمكن أن تسمح لبعض رعاياها بالقيام بأعمال السلب والنهب والقرصنة لأي سبب كان، وقد سبق لبلادنا أن أضربت مدة ستين يوما خلال الاستعمار الفرنسي البغيض ولم تجرؤ سلطات الاستعمار على القيام بمثل هذا العمل الوحشي...
ولما كانت الحكومة تنادي وترفع شعارات الحرية والديمقراطية وتؤكد حرصها على مصلحة المواطن ولاسيما صغار التجار والحرفيين أمثالنا، فإننا نعتقد بأن العمل الذي تم أمس قامت به عصابة مسلحة مجرمة غايتها إشاعة الفوضى وبث التفرقة بين أبناء الشعب، وأنها تريد أن تسيء إلى سمعة الجيش السوري فلبس بعض أفرادها الملابس العسكرية وحملوا رشاشات عسكرية...
إننا نطلب من سيادتكم اتخاذ الإجراءات التالية:

  1.  إصدار بيان تستنكرون فيه أعمال هذه العصابة المجرمة وتتبرؤون مما نسبته اليكم.
  2.  التحقيق مع الفاعلين الحقيقيين والدافعين لهذا العمل وإنزال اقصى العقوبة بهم.
  3.    التعويض عما لحقنا من أضرار والعمل على إعادة الأموال التي نهبت من محلاتنا.
  4. إصدار بيان تؤكدون فيه أن الإضراب مظهر من مظاهر الحرية وحق من حقوق المواطنين وأنكم ستعالجون مطالب المضربين.
ولم يكن موقعو هذه العريضة يأملون بأن تلبي السلطة مطالبهم، ولكنهم أرادوا بهذا الأسلوب أن يدمغوا البعث بمسؤولية ارتكاب هذه الجرائم.

صدى أحداث حماه خارجيا وآثارها داخليا

لقد أثارت الجرائم التي ارتكبها الجيش في حماه خاصة وسورية عامة السخط والاستنكار في العالمين العربي والإسلامي، فقد دمغ الإعلام العراقي والمصري حزب البعث بالكفر والإلحاد، ففي رسالة التهنئة التي وجهها عبد السلام عارف للعراقيين بمناسبة عيد الأضحى بتاريخ 21/4 تعرض إلى حوادث سورية الدامية والى حملات القمع في مدينة حماه، وجاء في كلمته:
"إننا نعمل لنعلي كلمة هذا الشعب العربي النبيل باحترام شعائر الدين والمحافظة على بيوت الله وأعمارها لا قصفها وتدميرها...ابقى الله عمل المؤمنين وابطل عمل الملحدين"
كما بعث الشيخ أمجد الزهاوي رئيس رابطة العلماء في العراق برقيات إلى ملوك العرب والإسلام ورؤسائهم يناشدهم المساهمة للعمل لإيقاف المجازر البعثية في سورية.

وتعليقا على أحداث حماه كتب كامل مروة بجريدة الحياة بتاريخ 18/4 مقالا جاء فيه:
"لقد كنا نود أن يتحفظ جماعة الحكم السوري بالجهر برأي متسرع لئلا يكونوا أميين بتاريخ بلادهم حين يصمون مدينة حماه بأشنع التهم، فحماه لم تكن يوما معقلا للاستعمار أثناء الاحتلال الفرنسي، فهي التي انبثقت منها الشرارة الأولى التي تجاوبت مع ثورة جبل الدروز الكبرى عام 1925، ومن حماه انطلقت أول دعوة اشتراكية في سورية على يد اكرم الحوراني، وفي حماه رجالات وعلماء ساهموا في الحركة الوطنية وفي بناء الاستقلال وكانوا ثروة للوطن السوري حين يحصى رصيد كل بلد".
"إن حوادث حماه هي مفترق طريق لسياسة الحكم في سورية فإما أن يكون بعدها لقاء على الوحدة الوطنية، أو فراق لا لقاء بعده".
لقد ظهرت أثناء قمع الحركة في مدينة حماه أعراض الأمراض الطائفية بين ضباط الجيش فقد حاول بعض هؤلاء الانتقام من مدينة حماه الأمر الذي افتضح داخل سورية وخارجها وبتاريخ 24/4/64 كتبت جريدة الحياة:
"إن المطلعين على مجرى الأحداث في حماه يقولون إن الذي قصف المدينة بالمدفعية هو العقيد حمد عبيد امر سلاح العشائر، وانه اغتنمها فرصة للانتقام بسبب قصف جبل الدروز في عهد الزعيم أديب الشيشكلي بقيادة المقدم فؤاد الأسود".

كما حذرت الصحيفة في العدد نفسه "من السرطان الطائفي الذي يزيد المشكلة السورية تعقيدا" ولقد أثارت محاولات الضباط الطائفيين الانتقام من مدينة حماه، ردود فعل لدى بعض الضباط السنة الذين التمسوا من الحافظ خلال الأحداث أن يسمح لهم بالبطش بهم ولكن الحافظ وعدهم بأنه سيضع حدا لتصرفاتهم الانتقامية.
لقد كانت الحجج التي تذرع بها الضباط للانتقام من مدينة حماه حججا مفضوحة ومشبوهة، ولا أظن أن الجاسوس كوهين كان بعيدا عن الإثارة الطائفية بين هؤلاء الضباط مما سيأتي تفصيله فيما بعد، إذ من المشهود والمعلوم لدى الشعب السوري كافة انه من مدينة حماه انطلقت إلى فلسطين عام 1948 كتائب الفداء الأولى، كما انه من المشهود والمعلوم لدى الشعب السوري ولا سيما أبناء جبل العرب الأشاوس وزعيم الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وحزب البعث بأن مدينة حماه كانت من اكثر المدن السورية حماسة ونضالاً في مواجهة ديكتاتورية ابن حماه أديب الشيشكلي الذي قمع مظاهراتها وإضراباتها ونكل بأبنائها اعتقالا وتعذيبا بسبب احتجاجها على إرسال الجيش السوري لاحتلال جبل العرب، وقد كان لإعلان عصيان الضباط الحمويين في جبل العرب وانضمام الضابط أمين الحافظ اليهم استجابة للنداء الذي وجهه للجيش من إذاعة حلب المقدم مصطفى حمدون، وهو من مدينة حماه، الأثر الكبير في نجاح الانقلاب ضد ديكتاتورية أديب الشيشكلي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن مدينة حماه كانت منطلق الدعوة للاشتراكية العربية وتحرير الفلاحين من الإقطاعية، وقد تحملت في سبيل هذه الدعوة ما تحملت من تضحيات الأمر الذي يشهد به أبناء كل قرية في جبل العلويين خاصة وقرى الريف السوري عامة.


المصدر: مذكرات أكرم الحوراني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صرفت الى رب الانام مطالبي ...

أنا من أريحا عروس الشمال