مصر - التعايش - الدرويش

هي المحروسةُ "مِصر" جميلةٌ في كل شيء، جميلةٌ بساكني الأحياء، ممن هم تحت الأرض والأحياء. بلدةٌ حيَّةٌ، بلدةٌ فيها روحانية الطمأنينة وروح الأنس، ومن حيث أنا، هنا في حي الحسين، الأرواح تتآلف والأدب شاهد الحال والنفس تسمو وتعلو.
شعبٌ دائمُ الصلاة على النبي، المسلم منهم وحتى إخوتنا من المسيحيين، وأذكر لكم قصة في هذا الصدد وهي أن خلافًا وقع بين اثنين وزادت حدة الخلاف حتى قاربت المشاجرة بالأيدي، فجاء شخص من بين الحشود يقول لهم "صلوا على النبي، صلوا على النبي"، فهدأت النفوس، وقد اتضح لاحقًا أن ذلك الشخص كان مسيحيًا. هذه مِصر، ففي كل مجال ذِكر النبي حاضر في مجالس المديح والذكر وحتى في الخلاف والمشاجرة، وهذا جوهرُ جمالُ مِصر.
حَبلُ الوِصَالْ
سِرُّ الجمال هذا ليس أمرًا جديدًا أو منذ القريب، كيف لا! وأهل مِصر كانت قلوبهم متشوقةً لاستقبال آل بيت النبي، لينزلوهم منزلة أصحاب الدار لا الزائر الغريب، ومنذ أن وَطِئتْ أقدام العترة الطاهرة هذه البلدة المحروسة والمباركة أفاضت روحانيات أخلاقهم وجميل معاملاتهم على قلوب المصريين فهامت أرواحهم محبة لآل البيت وعشقًا وفناء تميز مع عمقه باعتدال مساره فلم ينحرفوا إلى ما انحرف إليه غيرهم من تطاول على الصحابة رضي الله عنهم أو ربط المحبة بالكراهية بل كانت محبة قدسية نقية برزت من جمال القلب المصري وأبرزته.
"أنا الذي في حبكم أتعذبُ
وعذابكم عذبٌ لروحي مريحُ
من ذاق منكم قطرة عرف الهوى
ما بال متيم في الدِّنَانِ نقيحُ
السهر وِرْدي والنجوم تظلني
والقمر لو غاب عنى أنوحُ"
يا ولي النِعم، يا كل النِعم"
في رحاب مسجد سيدنا الحسين حيث إقامتي قابلت إنسانًا بسيطًا ومثله كثير ممن يدعونه بـ"الدرويش" لفتني أنه كثيرًا ما يردد "يا ولي النِعم، يا كل النِعم" طوال اليوم، تارة قبيل أذان الفجر، وتارة في منتصف النهار، وتارة أخرى في المساء، والعجيب أن وقعها يقع على القلوب قبل المسامع، ويتردد صداها في الأجواء واصلًا إلى نافذتي في الطابق الثالث، حتى أصبحتُ أرددها بحالٍ من الأنس من أنس ذلكم الدرويش، فما سِرُّ هذا الدرويش؟ وهو الذي كما عَلمتُ أنه لأكثر من أربعين عامٍ قائمٌ على توزيع الطعام "النفحة" بعد صلاة الفجر على المصلين والمساكين، فالذي يحمله على ذلك ليست الحاجة بل الحُبُّ المتمكن منه والذي يتجلى في تذوقه حين ينادي بـ"يا كُلَّ النِعم".
من هو الدرويش؟ وماهي لغته؟
"الدراويشُ مجانين الله يديرون وجوههم عن دنيا الخلائق تظهر في وجوههم الفرحة وربما انطوت قلوبهم على كثير من الأحزان. مشردون عن خراب الهياكل التي ترى في ترنُّحها وكذبها ونفاقها وجريها وراء الزائف حياة. يمارسون الحياة عبر مذاقات لا تُدرك وفلسفة لا يبلغها أهل الأوراق والدفاتر. يتحققون بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ. وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يطلبون سواه.
ولغةُ الدَّرويشِ كلُغةِ الوحيِ ولُغةِ الأديب وريشةِ الفنانِ، لا يقتربُ من فهمها أصحاب المنطق وعابدو الحروف والصور والتقسيمات. لغةٌ لا يمكن ترجمتها عبر اصطلاحات الحدود والقوالب. وحده صاحب الروح والقلب النابض من يمكنه إتقان هذه اللغة حتى وإن لم يملك يومًا لسانًا"
– خالد محمد عبده-
الدرويش أيا كان مظهره موحشًا للبعض ففي باطنه صفاء، يقنع بالقليل مما يكفيه، قد تكون ثيابه بالية مرقعة متسخة ولكن قلبه مع الله حيثما ذهب وتجول، وأما لغته فهي (اللــَّــه)، يعبر بها بمعانٍ لا تفسر ولا تترجم، تأتي كوِرْدِ الذاكرين من أهل الصلاح تحرك الوَّجْدَ وتَسُوق الروحَ قبل الجسد.
كم من نظرة ازدراء ونقصان ومهانة نظرنا بها لمفترشي الأرصفة، وجوالي الطرق، الدراويش مَنْ على شاكلتهم كُثر لا تلتفت لهم أعين الناس إلا الصالحين منهم وقبلهم عين الله التي ترعاهم، وفي الحديث "رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ"، هم بثوبِ الحاجةِ في غنى ونحن بلباسِ الغنى في حاجة، ليت لي نصيبٌ من حال ذلكم الدرويش – يا ولي النِعم يا كل النِعم يا رب.
-الإمام الحداد-

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أحداث حماة عام 1964

صرفت الى رب الانام مطالبي ...

أنا من أريحا عروس الشمال